أزمة المثقف و خطاب الشفقة

 أزمة المثقف و خطاب الشفقة

بقلم - ذ.رشيد بلفقيه :

لا يمكن لمن يدعي صفة المثقف إلا أن يكون ضد الجميع ، فالمفروض فيه أن يكون حامل رأي و فكر و رؤى مغايرة لكل السائد داخل المجموعة الاجتماعية أو الطبقة التي ينتمي إليها . و إلا فلا لزوم له و لا موقع له في المشهد بل لا مبرر من بحثنا عن مكان له أو عن دور في كل ذلك النسيج المسمى مجتمعا فحسب غرامشي مثلا لكل مجموعة اجتماعية بالضرورة ، جماعة من المثقفين، وظيفتهم الوحيدة و الواحدة و هي القيام بدور الهيمنة وتحقيق الانسجام داخل المجموعة وبذلك يتحدد وضع المثقف من خلال المجموعات الاجتماعية التي يخدمها ، ومن خلال الدور الذي يقوم به في السياسية و الاقتصاد و التربية و..و... بل و حتى في الصيرورة التاريخية .
وضعنا الثقافي مأزوم بما فيه الكفاية و لم يعد يحتمل المزيد من النسخ و لن نتقدم كثيرا في هذا المجال الحساس ، المُتواضع على وسمه بسمات التميز و الابداع و التفرد و الحرية ، بمنطق الشيخ والمريد مهما بلغ هذا الشيخ من العلم و المعرفة و مهما بلغ ذلك المريد الواهن من الجهل و التبعية و الثقة في صلابة الفكر الموجه ، فكل الافكار صالحة نسبيا و كل فكرة شمولية نهائية مكتملة لا خلل فيها و لا عيب لا يمكن بالضرورة إلا أن تنتمي لمجال آخر غير المجال الفكري و ما مصيبتنا الكبيرة إلا في بحثنا عن مفكرين وُثوقيين نبايعهم و نغلق ذلك الباب الذي تأتينا منه رياح النقد و التبديل و التعويض و التنقيح .....
من جهته ، يسقط المثقف و يندحر إذا كان يظن أن الجميع ملزم بدعمه و تمهيد السبل له و التصفيق له عند كل مفرق طرق . يسقط المثقف و يتبخر في فضاء الفكر إذا كان يبحث عن قوة تسنده و تدعم مبادئه . كيف لا و هو عينه الموكل إليه الوقوف في وجه القوة بالحقيقة التي يمتلكها كما يقول تشومسكي . لاشك أن المثقف التقليدي بات متجاوزًا في ما تفرضه السيرورة التاريخية للمفهوم ، فما دام هذا المثقف متشبثًا بإرث فكري كيفما كانت مرجعيته لطبقة بادت أو سائرة نحو الزوال فهو سيعالج الامور بفكر ماضوي لم يعد له الحضور نفسه والقوة التي كانت له في السابق و هذا هو المثقف المرير الذي يصر على ابقاء الوضع على ما هو عليه لأنه يجد فيه قرطاجته المفقودة.
أتساءل متى كان الانبياء - والمعنى إحالي تشبيهي هنا- متى كانت مجابة دعوتهم مرحب بهم في الامم التي عاشوا فيها ؟ في نفس الوضع يقبع المثقف فهو أيضا صاحب رسالة و لا يمكن إلا أن تكون متماهية مع المتغيرات حتى و إن سالمت الثوابت . وهو كذلك صاحب رؤية متفردة و صاحب مشروع مهما بدا دقيقا فهو الوحيد الكفيل بإعطائه تلك الصفة "صفة المثقف الكائن الفردي الذي تتمثل فرديته في وعيه الفردي الخاص ورأي الخاص، ربما رؤياه الخاصة أيضا للعالم" .
في محيطنا الثقافي الموبوء المتفق على اعوجاجه و غرقه في المبتذل و المكرور نجد فراغ مهولا في نوعية هؤلاء المثقفين الأسوياء ، يعوضهم طغيان مد موبوء " لفكر استرحامي ، توسلي ، تكسبي " هو التيمة المشتركة -غالبا- بين كل المناسبات الثقافية في كل الاجناس الابداعية ، فلا يكاد يخلو تجمع ثقافي أو مناسبة للتنكيل بهذه الثقافة باسم الثقافة إلا و يحضر أيضا ذلك الخطاب المرير الاتكالي الباحث عن الدعم من خارج المجال ، المتطلع لمراكب الإغاثة.... بل هناك من يبكي الوضع المأزوم و يرجعه كُلا و تفصيلا إلى غياب الدعم و السيولة في تكرار بات شبه نمطي لصورة المثقف الذي ينوح كالثكلى البلهاء على واقعه و يلطم مستنجدا بالآخرين لانتشاله من هذا المستنقع الآسن .
يعرف الجميع أن الوضعية في المغرب ظلت تراوح مكانها رغم تعاقب عدد من الوزراء على قطاع الثقافة و رغم وضع استراتيجيات ظلت مجمدة لغياب الحافز الحقيقي وراء تنزيلها و لغياب شروط التنزيل وظل معها الوضع الثقافي في حالة "انتظارية""، حسب تعبير "أمينة التوزاني"، مؤلفة كتاب "السياسة الثقافية بالمغرب" التي رسمت صورة قاتمة للوضع الثقافي بالبلاد، ووجهت سهام نقذها المباشر لوزراء الثقافة "الذين تعاقبوا على الوزارة دون أن يتغير الوضع".
الوضعية الثقافية مخجلة كما يقول "عبد اللطيف اللعبي" أيضا ، فقد أصبح المغاربة حسب هذا المفكر يعيشون في مرحلة من الإحباط الثقافي، عصية على القبول أو التأقلم مع وضع لم يعد فيه أي مجال للكرامة الوطنية.
وضعية كهذه لن يغيرها الباكون الباحثون عن الاسترزاق تحت مظلة الابداع و الفكر و لن يغيرها تنويع سمفونيات و طبقات النواح و اللطم الذي يكون أحيانا مبنيا على دوافع مبيته ترد من باب النوايا السيئة الذاهبة إلى تحصيل المكاسب الشخصية الضيقة من "اللقمة" التي تُرمى لهم في مشهد كئيب بئيس أو للَيّ يد عدو ، وهمي ، هلامي .... يقال دونكيشوتيا أنه السبب في نكبتنا ، و النكبة المفجعة نحن و فكرنا المجبول على تحصيل المكاسب المادية المحضة .
حتى في موروثنا الثقافي -حتى نكون موضوعيين- كان الشاعر يمدح أحيانا تكسبا و رغبة في تحصيل ما يسد به حاجته . و الغريب أنه حتى بين طبقة الشعراء الميسورين كان هذا الدافع التكسبي الصريح يغيب لكن ظلاله و آثاره و صداه كلها معطيات كانت تظل حاضرة ذائبة في حنايا المتن . فقدامة بن جعفر مثلا يعتبر أن المديح محور الشعر كله ، بل هو الشعر كله، فالهجاء سلب للصفات الحسنة، والرثاء مديح الميت، والغزل اطراء النساء، والفخر مديح النفس، وقسم المعاني تبعاً لمناصب الممدوحين متدرجة، لكن العجيب في هذا ان تاريخ التكسب في كليته لا يتحفنا بمثال صريح و حقيقي لممدوح يقنعنا بجدوى هذا النوع من الشعر و بكل تلك الصور البلاغية المُنفقة في تصويره .
كان هناك نقاش حول أخلاقية التكسب بالشعر فرفضه البعض أنفة و نأيا بقريضهم عن التزلف هذه في حين أقبل عليه البعض الآخر دون مواربة وزادت حدة هذا الاقبال مع المتأخرين حتى قيل : لا تصحبنَّ شاعراً فإنه يهجوك مجاناً ويطري بثمن.
ختاما ، لا تشفقوا على المثقف فهو أقوى من أن يُشفق عليه و لا تيأسوا من جسده الذي يبدو متخشبا فالصعقة التي يحسبها الجاهل ضربة قاتلة ، كفيلة بأن توقظه من سباته العميق . و حتى بمنطق المومياءات الفرعونية الضارب في القدم لا بد لتلك الروح التي غادرته يوما و هامت في مناكب الكون ، لابد لها أن تعود إليه يوما يبقى عليه فقط ان يتشبث بكل العلامات التي تقودها إليه .



نشر الخبر :
رابط مختصر للمقالة تجده هنا
http://mcmd.ma/news74.html
نشر الخبر : Administrator
عدد المشاهدات
عدد التعليقات : 0
أرسل لأحد ما طباعة الصفحة
أضف تعليقك
    تعليقات الزوار